فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {إنّا جعلناها فتنة للظالمين} قال: قول أبي جهل: إنما الزقوم التمر، والزبد أتزقمه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه رضي الله عنه في قوله: {طلعها كأنه رؤوس الشياطين} قال: شعور الشياطين، قائمة إلى السماء.
وأخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد الزهد وابن المنذر عن أبي عمران الجوني رضي الله عنه قال: بلغنا أن ابن آدم لا ينهش من شجرة الزقوم نهشة إلا نهشت منه مثلها.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فلما نفد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى} [القيامة: 34- 35] فسمع أبو جهل فقال: من توعد يا محمد؟ قال: إياك فقال: بم توعدني؟ فقال: أوعدك بالعزيز الكريم فقال أبو جهل: أليس أنا العزيز الكريم؟ فأنزل الله {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم} [الدخان: 43] إلى قوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} فلما بلغ أبا جهل ما نزل فيه، جمع أصحابه، فأخرج إليهم زبدًا وتمرًا فقال: تزقموا من هذا، فوالله ما يتوعدكم محمدًا إلا بهذا، فأنزل الله {إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم} إلى قوله: {ثم إن لهم عليها لشوبًا من حميم} فقال: في الشوب إنها تختلط باللبن، فتشوبه بها {فإن لهم} على ما يأكلون {لشوبًا من حميم}».
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {ثم إن لهم عليها لشوبًا} قال: لمزجا.
وأخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله: {ثم إن لهم عليهم لشوبًا من حميم} قال: يختلط الحميم والغساق قال له: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت قول الشاعر:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ** شيبًا بماء فعادا بعد أبوالا

وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {لشوبًا من حميم} قال: يخلط طعامهم، ويشاب بالحميم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقبل هؤلاء وهؤلاء، أهل الجنة وأهل النار، وقرأ {ثم إن مقيلهم لإِلى الجحيم}.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن جريج رضي الله عنه قال: في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه {ثم إن مقيلهم لإِلى الجحيم}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {ثم إن لهم عليها لشوبًا من حميم} قال: مزجًا {ثم إن مرجعهم لإِلى الجحيم} قال: فهم في عناء وعذاب بين نار وحميم. وتلا هذه الآية {يطوفون بينها وبين حميمٍ آن} [الرحمن: 44].
{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69)}.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {إنهم ألفوا آباءهم} قال: وجدوا آباءهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {إنهم ألفوا آباءهم} قال: وجدوا آباءهم {ضالين فهم على آثارهم يهرعون} أي مسرعين.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {إنهم ألفوا آباءهم ضالين} قال: جاهلين {فهم على آثارهم يهرعون} قال: كهيئة الهرولة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {فانظر كيف كان عاقبة المنذرين} قال: كيف عذب الله قوم نوح، وقوم لوط، وقوم صالح، والأمم التي عذب الله.
وأخرج ابن جرير عن السدي رضي الله عنه في قوله: {إلا عباد الله المخلصين} قال: الذين استخلصهم الله سبحانه وتعالى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)}.
ذَكَرَ صفة هوان الأعداء، وما هم به من صفة المذلة والعذاب في النار؛ من أَكْلِ الضريع، ومن شراب الزقوم التي هي في قُبْح صورة الشياطين، ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم. إلى آخر القصة. اهـ.

.تفسير الآيات (75- 82):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان مقصود السورة التنزيه الذي هو الإبعاد عن النقائص، ولذلك كان أنسب الأشياء الإقسام أولها بالملائكة هم أنزه الخلق، وكان أعلى الخلق من جرد نفسه عن الحظوظ بما يؤتيه الله من المجاهدات والمنازلات والمعالجات حتى يلحق بهم فيجوز مع فضلهم معالي الجهاد، فكان أحق الأنبياء بالذكر من كان أكثر تجريدًا لنفسه من الشواغل سيرًا إلى مولاه وتعريجًا عن كل ما سواه، وكان الأب الثاني من أحقهم بذلك لأنه تجرد في الجهاد بالدعاء إلى الله ألف عام ثم تجرد عن كل شيء على ظهر الماء بين الأرض والسماء، فقال تعالى مؤكدًا لما تقدم من أنه دعا إلى التأكيد من أن مكثه في قومه المدة الطويلة مبعد لأن يكونوا وافقوه ومالوا معه وتابعوه، ولأن فعل العرب في التكذيب مع ترادف المعجزات وتواتر العظات عمل من هو مكذب بوقوع النصرة للمرسلين، والعذاب للمكذبين، عطفًا على تقديره: فقاسى الرسل من الشدائد ما لا تسعه الأوراق، وجاهدوهم بأنفسهم والتضرع إلى الله تعالى في أمرهم: {ولقد نادانا} لما لنا من العظمة {نوح} بقوله: {رب إني مغلوب فانتصر} [القمر: 10] ونحوه مما أخبر الله عنه به بعد أمور عظيمة لقيها منهم من الكروب، والشدائد والخطوب، لنكشف عنه ما أعياه من أمرهم.
ولما أغنت هذه الجملة عن شرح القصة وتطويلها، وكان قد تسبب عن دعائه إجابته، قال بالتأكيد بالاسمية والإشارة إلى القسم والأداة الجامعة لكل مدح وصيغة العظمة إلى أن هول عذابهم وعظم مصابهم بلغ إلى أنه مع شهرته لا يكاد يصدق، فهو يحتاج إلى اجتهاد كبير وشدة اعتناء، فكانت الإجابة إجابة من يفعل ذلك وإن كانت الإفعال بالنسبة إليه سبحانه على حد سواء، لا تحتاج إلى غير مطلق الإرادة: {فلنعم المجيبون} أي كنا بما لنا من العظمة له ولغيره ممن كان نعم المجيب لنا، هذه صفتنا لا تغير لها.
ولما كان معنى هذا: فأجبناه إجابة هي النهاية في استحقاق على الممادح من إيصاله إلى مراده من حمله وحمل من آمن به والانتقام ممن كذبه كما هي عادتنا دائمًا، عطف عليه قوله: {ونجيناه} أي بما لنا من العظمة {وأهله} أي الذين وافقوه في الدين {من الكرب العظيم} وهو الأذى من الغرق {وجعلنا ذريته هم} أي خاصة {الباقين} لأن جميع أهل الأرض غرقوا فلم يبق منهم أحد أصلًا، وأهل السفينة لم يعقب منهم أحد غير أولاده، فأثبناه على نزاهته إن كان هو الأب الثاني، فالعرب والعجم أولاد سام، والسودان أولاد حام، والترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج أولاد يافث، فكل من تبع سنته في الخير كان له مثل أجره.
ولما ذكر لأنه بارك في نسله، أعلم أنه أدام ذكره بالخير في أهله فقال: {وتركنا عليه} أي ثناء حسنًا، لكنه حذف المفعول وجعله لازمًا، فصار المعنى: أوقعنا عليه الترك بشيء هو من عظمته وحسن ذكره بحيث يعز وصفه {في الآخرين} أي كل من تأخر عن زمانه إلى يوم الدين.
ولما كان قد كتب الله في القدم سلامته من كل سوء على كثرة الأعداء وطول الإقامة فيهم وشدة الخلاف قال تعالى مستأنفًا مادحًا: {سلام} أي عظيم {على نوح} من كل حي من الجن والأنس والملائكة لسلام الله عليه.
ولما كان لسان جميع أهل الأرض في زمانه عليه السلام واحدًا، فكانوا كلهم قومه، ولم يكن في زمانه نبي، فكانت نبوته قطب دائرة ذلك الوقت، فكان رسالته عامة لأهله، وكان غير الناس من الخلق لهم تبعًا، خصه في السلام بأن قال: {في العالمين} أي مذكور فيهم كلهم لفظًا ومعنى يسلم عليه دائمًا إلى أن تقوم الساعة، وخصوصية نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه أرسل إلى جميع الخلق مع اختلاف الألسنة ومع استمرار الرسالة أبد الآباد، وكون شريعته ناسخة غير منسوخة، وكون جميع الخلق في القيامة تحت لوائه، فهناك يظهر تمام ما أوتيه من عموم البعثة إلى ما ظهر منه في الدنيا.
ولما كان التقدير: فعلنا به ذلك لإحسانه، وكان الضالون ينكرون أن تنجو الدعاء إلى الله وأتباعهم منهم، أخبر في سياق التأكيد أنه يفعل بكل محسن ما فعل به فقال: {إنا} أي على عظمتنا {كذلك} أي مثل ذلك الجزاء بالذكر الحسن والنجاة من كل سوء {نجزي المحسنين} أي الذين يتجردون من الظلمات النفسانية إلى الأنوار الملكية بحيث لا يغفلون عن المعبود، ولا ينفكون لحظة عن الشهود.
ولما أفهمت هذه الجملة- ولا بد- إحسانه إلى المحسن، علل ما أفهمته بقوله: مؤكدًا إظهارًا للإقبال عليه بأن ذكره مما يرغب فيه، وتكذيبًا لمن كذبه: {إنه من عبادنا} أي الذين هم أهل لأن نضيفهم إلى مقام عظمتنا {المؤمنين} أي الراسخين في هذا الوصف، المتمكنين فيه، فعلم أن الإيمان هو المراد الأقصى من الإنسان لأنه علل الإنجاء بالإحسان والإحسان بالبيان، ولما أفهم تخصيص ذريته بالبقاء إهلاك غيرهم، وقدم ما هو أهل له من مدحه اهتمامًا به وترغيبًا في مثله، أخبر عن أعدائه بأنه أوقع بهم لأنهم لم يتحلوا بما كان سبب سعادته من الإيمان بقوله: مشيرًا إلى العظمة التي أوجدها سبحانه في إغراقهم بأداة التراخي: {ثم أغرقنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يقوم لها شيء {الآخرين} أي الذي غايروه في الأقوال والأفعال فاستحقوا أضداد أفعالنا معه وهو أهل الأرض كلهم غير أهل السفينة وكلهم قومه كما هو ظاهر الآيات إذا تؤمل تعبيرها عن الدعوة والإغراق ودعائه عليه السلام عليهم، وظاهر ما رواه الشيخان وغيرهما عن أنس رضى الله عنه في حديث الشفاعة أن الناس يقولون:
«ائتوا نوحًا أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض»، وإنما كانوا قومًا لا أكثر، لأنهم كانوا على لسان واحد قبل بلبلة الألسن باتفاق أهل التأريخ، وذلك كما أن العرب يطلق عليهم كلهم على انتشارهم واتساع بلادهم أنهم قوم، لاجتماعهم في اللسان مع أنهم قبائل لا يحصيهم العد، ولا يجمعهم نسب واحد إلا في إسماعيل عليه السلام، وقيل فيما فوقه، فإن النسابين أجمعوا على أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام، قالوا: هو من ولد عدنان، واختلفوا في قحطان أبي اليمن وكذا ثقيف، فقيل: هما من ولد إسماعيل عليه السلام، وقيل لا، ثم من قال: إن ثقيفًا من ولد إسماعيل عليه السلام، قالوا: هو من ولد عدنان، وقال بعضهم: لا، ثم إن من ولد عدنان ربيعة ومضر، ومن دون مضر كنانة وهذيل والقارة وخزاعة وأسد وتميم ومزينة والرباب وضبة وقيس، ودون ذلك باهله وأشجع وفزارة وكنانة وقريش وخلائق، ومن دون ربيعة بكر بن وائل وغيرهم، ومن دون ذلك شيبان وعبد القيس والنمر وخلائق، ودون قحطان أبي اليمن لخم وجذام وعائلة وغسان وكندة وهمدان والأزد، ومنهم الأنصار وخلائق غير ذلك، فهؤلاء كلهم- على هذا التشعب والانتشار والاختلاف في الأديان، بل وفي بعض اللغة- يسمون أمة واحدة وقومًا لجمع اللسان لهم في أصل العربية، وبنو إسحاق ليسوا منهم بلا خلاف، مع أنهم أولاد عمهم لمخالفتهم لهم في اللسان على أنهم أقرب من قحطان وثقيف في النسب عند من قال إنهم ليسوا من ولد إسماعيل عليه السلام، وكذا بنو إسحاق عليه السلام افترقوا بافتراق اللسان فبنوا إسماعيل قوم وبنو العيص- وهم الروم- قوم وكذا سائر الأمم إنما يفرق بينهم اللسان وعموم دعوته لبني آدم عليه السلام على هذا الوجه لا يقدح في خصوصية نبينا صلى الله عليه وسلم بعموم الدعوة والأرسال إلى غير قومه، أما العموم فإنه أرسل إلى كل من ينوس من الإنس والملائكة والجن، وأما دعاء الأقوام فالمراد أنه أرسل إلى الموافق في اللسان والمخالف فيه، وأما غيره فما أرسل إلى من خالفه في اللسان ولا إلى غير جنسه وإن كان يندب له أنه يأمر بالمخالفين في اللسان وينهاهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير وجوب، ولو سلمنا في نوح عليه السلام أنه لم يبعث إلى جميع أهل الأرض انتقض بآدم عليه السلام فإنه نبي مرسل، كما روى ذلك الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومحمد بن يحيى بن أبي عمر وأبو بكر بن أبي شيبة والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى الموصلي وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم والطبراني في معجمه الأوسط عن أبي أمامة الباهلي وأبي ذر رضى الله عنهما وفي بعض طرق أبي ذر التصريح بالإرسال ولا يشك أحد أنه كان رسولًا إلى جميع من أدركه من أولاده، وهم جميع أهل الأرض، وكذلك نوح عليه السلام، لا يشك أحد أنه كان بعد الغرق رسولًا إلى جميع أهل السفينة كما كان قبل ذلك: وهم جميع أهل الأرض، فما قدمت من أن الخصوصية بالإرسال إلى ذوي الألسن المختلفة من جميع بني آدم، وإلى المخالف في الجنس من كل من ينوس هو المزيل للإشكال- والله الموفق. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)}.
اعلم أنه تعالى لما قال من قبل: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين} [الصافات 71] وقال: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} [الصافات 73] أتبعه بشرح وقائع الأنبياء عليهم السلام فالقصة الأولى: حكاية حال نوح عليه السلام وقوله: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون} فيه مباحث:
الأول: أن اللام في قوله: {فَلَنِعْمَ المجيبون} جواب قسم محذوف والمخصوص بالمدح محذوف، أي فلنعم المجيبون نحن.
البحث الثاني: أنه تعالى ذكر أن نوحًا نادى ولم يذكر أن ذلك النداء في أي الوقائع كان؟ لا جرم حصل فيه قولان الأول: وهو المشهور عند الجمهور أنه نادى الرب تعالى في أن ينجيه من محنة الغرق وكرب تلك الواقعة والقول الثاني: أن نوحًا عليه السلام لما اشتغل بدعوة قومه إلى الدين الحق بالغوا في إيذائه وقصدوا قتله، ثم إنه عليه السلام نادى ربه واستنصره على كفار قومه، فأجابه الله تعالى ومنعهم من قتله وإيذائه، واحتج هذا القائل على ضعف القول الأول بأنه عليه السلام إنما دعا عليهم لأجل أن ينجيه الله تعالى وأهله، وأجاب الله دعاءه فيه فكان حصول تلك النجاة كالمعلوم المتيقن في دعائه، وذلك يمنع من أن يقال المطلوب من هذا النداء حصول هذه النجاة.
ثم إنه تعالى لما حكى عن نوح أنه ناداه قال بعده: {فَلَنِعْمَ المجيبون} وهذه اللفظة تدل على أن تلك الإجابة كانت من النعم العظيمة، وبيانه من وجوه الأول: أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} والقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم والثاني: أنه أعاد صيغة الجمع في قوله: {فَلَنِعْمَ المجيبون} وذلك أيضًا يدل على تعظيم تلك النعمة.
لا سيما وقد وصف تلك الإجابة بأنها نعمت الإجابة والثالث: أن الفاء في قوله: {فَلَنِعْمَ المجيبون} يدل على أن حصول هذه الإجابة مرتب على ذلك النداء، والحكم المرتب على الوصف المناسب يقتضي كونه معللًا به، وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة، ثم إنه تعالى لما بين أنه سبحانه نعم المجيب على سبيل الإجمال، بين أن الإنعام حصل في تلك الإجابة من وجوه الأول: قوله تعالى: {ونجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} وهو على القول الأول الكرب الحاصل بسبب الخوف من الغرق، وعلى الثاني الكرب الحاصل من أذى قومه والثاني: قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين} يفيد الحصر وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فنوا، قال ابن عباس: ذريته بنوه الثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك.
النعمة الثالثة: قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ في الأخرين سلام على نُوحٍ في العالمين} يعني يذكرون هذه الكلمة، فإن قيل فما معنى قوله: {فِى العالمين} قلنا معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعًا أي لا يخلو أحد منهم منها، كأنه قيل أثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين فيسلمون عليه بكليتهم، ثم إنه تعالى لما شرح تفاصيل إنعامه عليه قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} والمعنى أنا إنما خصصنا نوحًا عليه السلام بتلك التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوأة من ذريته ومن تبقية ذكره الحسن في ألسنة جميع العالمين لأجل أنه كان محسنًا، ثم علل كونه محسنًا بأنه كان عبدًا لله مؤمنًا، والمقصود منه بيان أن أعظم الدرجات وأشرف المقامات الإيمان بالله والانقياد لطاعته. اهـ.